الأربعاء، 22 يوليو 2009

رجل على طريق الرئاسة ((أسرار يوم 17 يوليو1978م))

الإقطاعية القبلية، وكانت الإزاحة المفاجئة للبعض منهم يعنى الاصطدام بمراكز نفوذ اجتماعية قد تتكرر من خلالها تجارب أسلافه. وقد بدت هذه النظرة منطقية إلى حدٍ ما في أي وضع مماثل لما كانت عليه اليمن. البدايـــــــات المستحليــــــة:استهلت الجمهورية العربية اليمنية عهداً سياسياً جديداً لا حقيقة فيه أكبر من كون الحكم فيه مغامرة لا تستحق عناء السعي، وأجمع كل من تدارس أوضاع اليمن آنذاك على وصف كرسي الحكم بأنه "مفخخ"، وأن كل الأحداث تنذر بانهيار مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. فكان أن سلك الفزع طريقه إلى نفوس القيادات الوطنية فأشفقوا من تحمل المسئولية، وصاروا لا يرون علي عبد الله صالح إلا على أنه "الرئيس الضحية". ولم يكن ذلك رأي اليمنيين وحدهم بل أن المجلة الأسبوعية الأمريكية "نيوز ويك" نشرت مقالاً جاء فيه "إن رئيس الدولة الجديد لن يكمل الستة أشهر كحد أقصى.." والرئيس علي عبد الله صالح نفسه كان يعي تماماً خطورة المرحلة، وصعوبة الموقف الذي وضع نفسه فيه، فيقول غداة توليه الحكم في 17 يوليو 1978م: ( كنت أشعر بصعوبة المهمة، وأعرف أن فقداني لحياتي قد يكون في أي لحظة، لكن التضحية لإنقاذ الوطن سهلة، لقد اخترت كفني، ولم أخش شيئاً عندما طلب مني تحمّل المسئولية، وما كنت أخشاه أن ينتكس الوطن..)
وفي الحقيقية أن حالة القلق على مستقبل الحكم في اليمن لا يأتي من الحالة الآنية التي كانت تمر بها الدولة، بل هي حالة مرافقة لكل المراحل السياسية الانتقالية، ومحكومة بالعديد من المفاهيم الفلسفية والتاريخية المؤلفة لظروف المجتمع وتطورات حركته الثورية.. فالرئيس علي عبدالله صالح يقر بوجود خصوصية نوعية في بلورة الثقافة السياسية السلطوية لدوائر الحكم اليمني، ويفسر الرئيس صالح تلك الخصوصية في قوله:(اليمن من أكثر البلدان صعوبة في الحكم لاعتبارات عديدة، أهمها ذلك الموروث الصعب الذي ورثته اليمن من العهود الماضية، إلى جانب ما ينبغي أن يحتاجه الحاكم من فهم واستقراء جيد، واستيعاب واع للخارطة اليمنية..ولا شك أن هذا الرأي يفسر الكثير من إشكالات الأزمة الثورية اليمنية التي لازمت الدولة اليمنية منذ إندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م وحتى بداية عهد الرئيس علي عبدالله صالح. فاليمن لم تكن تواجه أزمة عنصر وطني أو مأزق فكري تحرري، بقدر ما كانت مشكلتها الرئيسية في ضيق أفق ديناميكية البناء الثوري للدولة على أساس من خصوصياتها اليمنية التاريخية والجغرافية والثقافية وطبيعة تفاعلاتها الإقليمية في إطار تكويناتها الحضارية المختلفة.
أن عدم استيعاب القادة اليمنيين للرؤى الواقعية التي كان من الأولى أن تؤخذ بنظر الاعتبار وتعطي الأسبقية في تشكيل الصيغة الوطنية لديناميكية العمل الثوري، جعل الكثير من المفاهيم أو البرامج الثورية للجمهورية الحديثة تتعثر وتتعرض لانتكاسة نوعية في بعض الفترات، وبالتالي الوصول إلى وضع أدنى بكثير من تطلعات القوى الوطنية الأخرى خارج دائرة اللعبة السياسية للسلطة.وهكذا اختلطت المناهج في مؤسسة الحكم بين سلطة تغازل الرموز القبلية التقليدية أو فئة البرجوازيين أو الإسلاميين أو الراديكاليين والعسكريين وغيرهم، وبين أخرى تطيح بسابقتها وتستقوي بالبديل الأخر، حتى بلغ الأمر حداً أن نجد تعدداً سافراً في أساليب الاستقواء السلطوي يتخلل نفس العهد السياسي الواحد .
إذن كان الوضع الثوري ينحدر، وتتفاقم أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل غياب الاستقراء الواعي لظروف المعترك السياسي، وتغييب الفلسفة البراغماتية عن البرامج السياسية للقيادة الحاكمة، وبالتالي ساد الواقع اليمني لون من التعدد الانشطاري للقوى الوطنية وإمكانياتها التحولية والحركية في الميدان، فاستحال النظام الجمهوري حالة لتكريس الفوضى وتعميق هوة الفراغ السياسي، وإلى تجاهل شبه كامل لمؤسسات المجتمع المدني مما نجم عنه استفحال تنامي أجنحة القوى الأخرى، ورضوخ مؤسسة الحكم لتأثيراتها وضغوطها، ومن ثم مواجهة مصيرها الأخير على أيديها، وجر الوطن اليمني إلى المزيد من التدهور والانتكاس.ومن البديهي أن الرئيس علي عبدالله صالح لم يكن بمقدوره كسب رهان السلطة والاستمرار في الحكم ما لم يكن قد أدرك تلك الحقائق وتوصل إلى مواطن الخلل التي قادت أسلافه إلى ذلك المصير المأساوي الذي إنتهوا إليه. ومن غير الممكن الوعي بالحقيقة الكاملة ما لم يكن قد أمضى السنوات الماضية من عمر الثورة مراقباً جيداً لمفرداتها ومتغيراتها الفكرية والسياسية، ثم عمل على تحليلها إلى مسبباتها وظروفها والخروج بقناعات استقرائية يمكن إعتبارها منطلقات صياغة مناهج العهد الجديد وقواعد إرتكاز المؤسسة الحاكمة.وبحكم الاحتكاك المباشر مع الحدث أولاً ومع صناع القرار السياسي ثانياً في فترة السبعينيات على وجه الخصوص توافرت الخبرات العملية التراكمية عند الرئيس علي عبدالله صالح، وبدا واضحاً إنه كان يتعقب كل متغيرات السلوك السياسي للنخب الحاكمة ويحاول تشخيص وتصنيف التجارب وإعطائها نصابها الوافي من التحليل والتقييم طبقاً لمناخاتها وخرائط تشكيلها على أرضية الواقع باختلاف البعد الزماني والبعد المكاني لظروف صناعة القرار السياسي..ولولا تلك التقديرات الافتراضية لحيثيات الوضع اليمني لتلك الفترة لما كان الرئيس علي عبد الله صالح سيغامر بكرسي رئاسي مفخخ. ويغلب الظن إنه كان سيتحاشي الأخذ بكفاية مهاراته وخبراته العسكرية العالية كشرط وحيد للتغلب على تحديات المرحلة، وتجاوز إنحرافاتها الحادة، ثم الأخذ بناصية الوطن والثورة إلى بر السلامة. مما يرجح لدينا فكرة الاستقراء المسبق للأزمة السياسية اليمنية، والوعي التام بمفرداتها ومسببات حالة التصعيد والتوتر السائد.. وأخيراً وثوق الرئيس صالح بالمخارج المفترضة لذلك وإرادته السياسية لبلوغ أدواتها المناسبة. الموروث التاريخي لما قبل 17 يوليورغم أن الرئيس علي عبدالله صالح كان يبدو منذ الوهلة الأولى خياراً استثنائياً لحقبة تاريخية استثنائية أيضاً، إلا أن ترامي طرفي الأفق الزمني لانطلاقة تجربتــه السياسية مـــن خط يوم 17 يوليو 1978م إلى نهاية ديسمبر 2004م، تقتضي منا قبل الولوج في التفاعلات السياسية لعهده تركيب الصورة الحقيقية لواقع الجمهورية العربية اليمنية التي كان ينبغي على الرئيس ملامسة أبعادها، وفك طلاسمها، ومحاكاة طقوسها، وإعادة تخطيط ملامحها طبقاً لحاجة اللحظة الآنية أولاً، وبحسب المحور المستقبلي الذي ينظر إلى تنظيمها على فلكه ثانياً.ومن أجل فهم طبيعة الأهمية التي إتصفت بها مرحلة تولي الرئيس علي عبدالله صالح مقاليد الحكم اليمني، وسبب تسليط كل هذه الأضواء عليها، سنقف على ماهية الموروث التاريخي اليمني لما قبل يوم السابع عشر من يوليو 1978م، ونلخصه بالآتي:
أولاً: أن ثورة 26 سبتمبر 1962م جاءت لتبدأ من الصفر تقريباً، نظراً إلى أن الحكم الإمامي لم يورثها شيئاً يذكر من قواعد وأسس الدولة حتى على مستوى المنطقة. وكان من المؤمل أن تتحول الثورة إلى أداة حقيقية للتغيير والتحول إلى مسار البناء الحديث للدولة بآليات الأهداف السبتمبرية المعلنة. لكن ما حدث هو انشغال القوى الوطنية لفترة غير قصيرة في أزمات سياسية وفكرية ومناكفات داخلية، وتذبذب في منازلهم القيادية بين هبوط وصعود تبعاً لمواقف الزعامات منهم وفي نفس الوقت قصور في بعد نظر السلطة في فهمها وتناولها للأزمات السياسية وسبل احتوائها، وبالتالي فشلها في موازنة الساحة الداخلية واصطدامها بعدة مراكز قوى ساهمت في تعطيل المشاريع الثورية، ومضاعفة المعاناة الانسانية للمواطن اليمني.ولم يتوقف أثر ذلك عند حد التعطيل، بل أنه هيأ مناخات متوترة يسرت السبيل أمام القوى الخارجية للتدخل والتأثير في الساحة السياسية اليمنية، وأتاحت أمام القوى اليسارية المتطرفة فرصة لاختراق الصفوف الوطنية والسعي لإذابة ثقافتها في قالب سياسي غريب تماماً وخطير. ولعل تلك الفوضى الثورية والسياسية، والتعدد في مراكز القوى، كانت نتيجته الطبيعية تصفية العديد من القيادات الوطنية على أيد مجهولة، ثم تدهور المؤسسة السياسية الحاكمة وانتقالها السريع قبل استقرار برامجها في انقلابين وتفاقم الحالة إلى صيغ الاغتيالات الدموية للرئيسين الأخيرين، ولم يبق من الثورة في الشطر الشمالي ما يستحق البكاء عليه سوى بصيص أمل منها يخشى عليه من رصاصة رحمة كانت في طريقها إليه من عدن.
ثانياً: ورث الرئيس علي عبدالله صالح دولة منهكة، يضنيها الإنفلات المؤسسي والفراغ السياسي ولا شيء يصفها بـ (الدولة) أكثر من مجموعة من الدساتير والقوانين المعدلة والقاصرة، والمعزولة عما يجري على الواقع. على الرغم من أن الفترة الواقعة بين 68-1978م قد بدأت فيها محاولات وخطوات لتأسيس نظام دستوري ممثلاً في المجلس الوطني المعين، وإعلان الدستور الدائم عام 1972م، وتأسيس مجلس شورى منتخب بدأ في وضع كثير من القوانين الصادرة عنه ما بين 1971-1975م قبل إعلان حلّه وتعليق الدستور.إلا أن كل ذلك كان يحاكي تجارب عربية شهدتها فترة الخمسينيات ولم تعد ملائمة للوضع اليمني، ولربما كانت في مقدمة أسباب عدم الاستقرار في أسس وقواعد الدولة وتشريعاتها. وبرزت ظاهرة الانفصام الوطني كسمة غالبة لهوية العمل السياسي لتلك الفترة.. وفي ظل تغييب مؤسسات المجتمع المدني طغت النخب القبلية والبرجوازية والعسكرية، وأخذت تتلاعب بمقدرات الحكم وتوجه دفته على مسارات غير آمنة تبتعد كثيراً عن المسار الثوري السبتمبري الواضح.
ثالثاً: ظلت حالة التشطير من أسوء الموروثات التي انتقلت إلى عهد الرئيس صالح، حيث أنها جرت الوطن اليمني إلى عدة حروب على الحدود التشطيرية، وأهدرت الكثير من الإمكانيات المادية والبشرية، وبعثرت الموارد الوطنية، وجزأت عناصر التنمية الاقتصادية في وقت كان البلد بأمس الحاجة لها في ردم مخلفات العهد الملكي البائد. علاوة على إنها أضعفت قوة الوطن وأخضعته للمراهنات الخارجية.
رابعاً: لم تنجح الأعوام الستة عشرة من عمر الثورة في إعادة تأهيل البنى الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والحضارية للدولة اليمنية، وظل لوبي الفقر والجهل والتخلف والمرض صفات ملتصقة بالمجتمع اليمني، ولم تكن المعالجات الحكومية تتناسب بقدر ملموس مع ضخامة المشكلة وحجم الزيادة السكانية السريعة في المجتمع اليمني.
خامساً: وعلى الصعيد الدولي، تضاعفت حالة العزلة عن المجتمع الدولي بسبب إنشغال السلطة في أزماتها الداخلية، ولافتقارها أصلاً للمؤسسات التي تكفل الإندماج مع البيئة الخارجية.. وتبعاً لذلك تضاءل الدور اليمني الإقليمي والدولي وفقد اليمن فرصة الاستفادة من خصائص موقعه الاستراتيجي.
سادساً: لعبت التدخلات الخارجية دوراً مؤثراً جداً في حماية الموروث السلبي المذكور آنفاً وتأجيج الفتن والصراعات الداخلية عبر إستقطاب بعض القوى الوطنية اليمنية- على رأسها التيار القبلي- واستخدامها كأدوات ضغط على نظام صنعاء، كلما إقتضت الضرورة لذلك. وبرزت في هذا الاتجاة المملكة العربية السعودية كأقوى الأقطاب الخارجية التي أخترقت الدولة اليمنية وكرست جهداً طويلاً وعظيماً لإضعافها وبلغ استئساد السعوديين وهيمنتهم على دوائر السياسة اليمنية مبلغاً جعل من المملكة وسيط اليمنيين في المعاملات الخارجية وأمسى ذلك التدخل السعودي السافر بالشئون اليمنية موضع خلاف القوى الوطنية اليمنية مع نظام الحكم، وكان يتطور في بعض حالاته إلى مواجهات مسلحة أو إنشقاقات خطيرة تترك بصماتها على أداء السلطة واستقرارها، على غرار ما حدث في أبريل 1978م.لقد مثل هذا الموروث الثقيل أمام الرئيس علي عبدالله صالح كعبء إضافي ينبغي التفكير ملياً ببدائله المناسبة، والكفيلة بتحرير مؤسسة الحكم اليمنية من التأثير السعودي، وتأسيس صيغة إرتباط متوازنة يتحقق على ضوئها نمطاً متكافئاً من التعاون الثنائي بين البلدين بما يعود بالفائدة على الإقليم كاملاً من غير إضرار بمصالح طرف على طرف أخر.. وكما سنرى لاحقاً أن الرئيس علي عبدالله صالح سيمسك بخيوط اللعبة السياسية، ويوجهها كما يروم، ويلعب جميع أدوارها بذكاء وبراعة منقطعة النظير.
سابعاً: مثلت القبيلة القدر الاجتماعي الذي لا مفر للدولة من الإيمان به، واستحالة نكران وجوده، لأنه سبغة التركيبة الاجتماعية اليمنية منذ فجر التاريخ. لكن عهود الاحتلال وما تبعها من أنظمة ثيوقراطية ظالمة ومتخلفة تظافرت معاً لقهر منعة القبيلة والسطو على أعرافها النبيلة وبريقها التاريخي لتجعل منها عبئاً اجتماعياً لتكريس مظاهر التخلف والعصبية العمياء.وبانبثاق ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م اصطدمت المفاهيم الثورية التحديثية مع الأعراف القبلية التقليدية الرافضة لأي تغيري أو عبور إلى المعاصرة، وفي نفس الوقت وقفت مصرة على التبؤ بنفوذ سلطوي في دوائر الحكم السياسي، ضاغطة بكل ما أوتيت من قوة تسليحية وعددية ووجاهة في الوسط الاجتماعي.. ومن هنا شقت طريقها إلى الساحة السياسية ولعبت أدوارها المرسومة بكل وسائلها البدائية، وأمست مصدراً لزعزعة الاستقرار الوطني وإثارة مخاوف النظام الحاكم. فالعديد منها لم يصمد أمام بريق الريال السعودي وأصبح أداة المملكة للضغط على صنعاء، علاوة على تحالف البعض مع المليشيات الجنوبية في مناطق الأطراف على الحدود التشطيرية من غير تقدير سليم لخطورة ما تم الإقدام عليه.لاشك أن الأنظمة السياسية التي تداولت الحكم في صنعاء كبت في احتواء التأثير القبلي، والحد من سلطة المشائخ في أروقة الدولة. وأن حتى من حاول تقليم أظافرهم وإقصائهم عن مراكز الحكم وجد نفسه بعد حين مضطراً للتفاوض معهم ومحاولة إرضائهم. وبما أن الرئيس علي عبدالله صالح لم يأت على أكتاف المشائخ فكان من المسلم به أن يصطدم بهذا الموروث الثقيل، ويضعه في الحسبان كتحدي أخر يقف في طريق البرنامج السياسي الوطني الذي كان يتصوره لمستقبل الدولة اليمنية يوم 17 يوليو 1978م.
ثامناً: وأخيراُ فإن انتقال رئاسة الشطر الجنوبي إلى يد عبدالفتاح اسماعيل- زعيم الجناح الماركسي المتطرف- كان يعني حرباً في الطريق تهدف الإطاحة بنظام حكم صنعاء، لأن ذلك كان وسيلته الأولى للتغيير السياسي.
خيارات الرئيس في أيامه الأولىعمد الرئيس علي عبد الله صالح إلى تجنب الإسقاط الحرفي لتجارب من سبقه من الرؤساء الجمهوريين، فلم يقتف آثار السياسات الانتقامية أو التصفوية لرموز القوى الوطنية، بل ذهب إلى انتهاج سياسات دفاعية بالدرجة الأولى ترمي إلى إعادة بناء كل الهياكل التي من حوله. فشرع أولاً بتأمين وحماية الدائرة الأولى في السلطة- أي الرئاسة- من مخاطر الصراع الإقليمي الذي أطاح بالأنظمة السابقة، ليكون تثبيت الأمن في هذا الموقع أساساً متيناً لانطلاقات متدرجة على سقف زمني مرحلي يكفل تأمين الأجهزة والإدارات الحكومية الأخرى، ومن ثم حماية البلاد التي ستصبح حاصل تلقائي لأسباب الاستقرار السياسي الذي ساد أجهزة الدولة ولبلوغ ذلك أختار الرئيس علي عبدالله صالح عناصراً ماهرة وموثوق بها من الأقرباء والأصدقاء والمعارف الموثوق بأخلاصهم لضرب طوق حول الحكم، ورسم الخطوط الحمراء حول أجهزته ودوائره الحساسة، والضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه تجاوزها.وكان من المهم جداً البدء بتلك الخطوة الاحترازية بعد أن بات جلياً حجم تغلغل واستشراء نفوذ الأطراف المعادية أو الطامعة بالسلطة إلى داخل دور الرئاسة والنيل من الزعماء في مكاتبهم الرسمية كما حصل للغشمي أو في غرف بيوتهم كما آلت إليه نهاية الحمدي وأخيه.كما أخذ الرئيس صالح يعيد تنظيم الأجهزة الأمنية والعسكرية بدءاً من الوحدات التي كانت متمركزة في قلب صنعاء وصولاً إلى أطرافها الخارجية، ويولي عليها أنصاره المخلصين ممن يمكن الاستناد إليهم(( ، وبادر أيضاً باستدعاء بعض الرموز والوجاهات المعروفين بثقلهم السياسي والاجتماعي في الساحة اليمنية بقصد الاستفادة من خبراتهم أولاً، ومن مساحة نفوذهم ثانياً، بما يضمن المزيد من أسباب الاستقرار الداخلي والاطمئنان، ويمنح نظامه هامشاً أوسع من الحركة، والانطلاق منها فيما بعد لضبط المؤثرات الخارجية وتحجيمها وردع تدخلاتها في شئون السياسة اليمنية.وفي الحقيقية أن الرئيس علي عبد الله صالح كان مضطراً إلى استهلاك مثل تلك الخطوات وغيرها كنتيجة للظرف الطارئ وحالة التوتر السياسية والانفلات الأمني التي حاكت خيوطه عدة قوى متداخلة مع بعضها سواء في الجهد الحركي أو العائد الرجعي من فتح الساحة اليمنية (الشمالية) أمام الأقطاب النافذة في المحيط الإقليمي.. لكن سياسة الرئيس علي عبد الله صالح لإدارة الأزمة كان من السهل التكهن بمرتكزاتها منذ اليوم الأول لتسنمه الحكم بأنها لن تستند إلى رهان عسكري مبكر يصفي من خلاله حسابات متراكمة مع أعرض جبهتين كانتا تطوقان نظام صنعاء، الأولى على الخط التشطيري الساخن، والثانية على امتداد الشريط الحدودي الشمالي مع المملكة العربية السعودية.فقد بدا الرئيس صالح عازماً على لملمة أطراف الوطن اليمني، وفرز أوراق اللعبة السياسية أولاً، وإصلاح أجهزته الداخلية التي طالما ظلت عرضة للتدمير المنهجي التلقائي في كل عهد مما سلف، متحاشياً السقوط في تجارب سبق أن استوعب دروسها، واستلهم عواقبها.. وإذا كان قد قبل بالحكم فذلك لأنه كان قد باشر تأسيس دعائمه الأمنية منذ ساعة وصوله إلى صنعاء من تعز، وشروعه في تنظيم التدابير الوقائية لأمن هياكل الدولة كما أتينا على ذلك في الفصل السابق.وعلى كل حال فإن الرئيس علي عبد الله صالح لم ينتظر الخطوب، بل عزم على الانطلاق بمسيرة البناء الوطني التنموي بقوة ملفتة للنظر. ففي أول بياناته السياسية بمناسبة العيد السادس عشر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وقف بمظهر الرجل الواثق تماماً من نفسه وإرادته السياسية يضع اللبنات الأولى لمؤسسة الدولة الحديثة بتدشينه العهد بالإعلان عن إنشاء المجالس البلدية في كل محافظات الجمهورية (تجسيداً لإرساء قواعد الديمقراطية الحقة) كذلك الإعلان عن دعم ورعاية حركة التعاون الأهلي للتطوير (تجسيداً لمبدأ هام من مبادئ الثورة، ولإيماننا بأنها تمثل أروع صورة للمبادرة الشعبية والمجهودات الوطنية..).
وأكد في خطابه أيضاً على توجهاته لقيادة البلد على مسار التحولات الديمقراطية كمنهج أساسي يميز أدوات بناء المرحلة القادمة: (موجهين كل اهتماماتنا نحو التنمية وإرساء قواعد الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبناء الدولة الحديثة، دولة العدل والنظام..).ومن المدهش حقاً أن الرئيس علي عبدالله صالح، وبالرغم من كل الهموم الوطنية والفترة الحرجة التي كان يمر بها البلد إجتهد في لفت عنايته المادية لأبناء شعبه من خلال إنتهازه المناسبة لوضع حجر الأساس لمشروع إنشاء مساكن شعبية للمواطنين لتخفيف معاناتهم، علاوة على أن شهر سبتمبر شهد إقامة مشروع التغطية الإرسالية لمناطق صنعاء وذمار وإب وتعز والحديدة وحجة، بثماني محطات إرسال يتبع كل محطة ثلاثة مولدات كهربائية كبيرة.إلاَّ أن ا لموقف الذي نمّ عن سعة الخبرة السياسية للرئيس واستقرائه الواضح للإحداث وقدرته على التحكم بقوانين اللعبة السياسية هو المغازلة الصريحة للمملكة العربية السعودية في بيانه السياسي بذكرى عيد الثورة، والذي أراد به تمهيد السبل لتوطيد علاقة إيجابية مع المملكة بتعبيره عن الامتنان لمواقفها مع اليمن، ومن جهة أخرى لتطمين السعوديين إلى جانبه وتوجهه السياسي: "يطيب لي أن أشيد – بكل تقدير وعرفان- بالمساعدات التي قدمها ويقدمها لنا كل الأشقاء، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية..). ثم يضيف في موضع آخر من الخطاب: "سنسعى جاهدين – كما هو مرسوم في سياستنا- لإعادة التضامن والتلاحم والوفاء العربي إلى مجراه الطبيعي..".من المؤكد كان ذلك مناورة ذكية ومبكرة لحيازة استعطاف الجانب السعودي ودعمه لنظامه في وقت كان فيه الرئيس واثقاً من وجود نوايا عدوانية من نظام عدن تتربص به الدوائر.وذلك ما يفسره الهجوم الإعلامي الصاخب الذي حمل به الرئيس صالح على نظام الشطر الجنوبي ومليشيات الجبهة القومية التي وصفها بعبارة "عصابات السوء الفاشية الملحدة المتسلطة.." ثم حذر "الشرذمة المتربعة على كراسي السلطة في عدن من مغبة وخطورة استمرارها في اللعب بالنار..".وهكذا استهل الرئيس صالح عهده بتطلعات كبيرة واعدة ومشاريع خدمية، ومحاولة جادة لإحلال السلام الإقليمي مع جارته السعودية.. ولم يمض الرئيس في الحكم سوى سبعين يوماً لا غير. ويمكن القول أن الأيام القليلة الماضية من عهد الرئيس علي عبد الله صالح تميزت بصياغاتها التفاعلية السريعة مع الواقع السياسي إلى جانب حرص شديد من القيادة لممارسة مسئولياتها داخل أطر حذرة نسبياً رغم كل ما أحاطت به نفسها من احتياطات أمنية. لكن فداحة النكسة السياسية التي مر بها الوطن اليمني، ودهاء الخصوم في إحداث اختراقات مفاجئة في سياج السلطة زعزع درجات الاطمئنان وترك هامشاً عريضاً من الحذر واليقظة تتحرك على محدداته رئاسة الدولة.لكن – بشكل عام- كانت البداية متوازنة إلى حدٍ ما، وتنم عن وعي قيادي مسبق لحقيقة ما يجب عليه. فالرئيس علي عبد الله صالح استطاع خلال سبعين يوماً فقط من حكمه أن يؤكد ما يلي:
• منعة المقرات السيادية للدولة وحصانة رموزها القيادية من خلال الطوق الأمني الذي شيده حولها من المقربين المخلصين، وأن كان ذلك سيتخذ لاحقاً مفهوماً مؤولاً من قبل بعض ا لقوى على أنه قولبة احتكارية للسلطة تجعلها محصورة في أيدي ذوي الرئيس إلا أن لا خيار كان أمام الرئيس لتوطيد أمن الحكم واستقرار ساحة البلاد وتجنيبها المنعطفات السياسية الحادة غير أن يمارس اللعبة السياسية على طريقته الخاصة، والقواعد التي تكفل له قهر إرادة خصومه المتوغلين في كل مكان.
• كانت سياسته في تلك الأيام القليلة تنبئ بتوجهات عقلانية رصينة لا تأبه لسطوة السلاح والتصفيات لمراكز القوة الاجتماعية والرموز المشائخية وغيرها ممن كان يتطلع لإدارة سياسية رئيسية، بل إنه كان حتى اللحظة التي نحن بصددها مجتهداً في فتح أبواب الحوار والتفاهم معها، ومن غير تجاهل أو تهميش لأي منها.. وذلك أمر لو قارنّاه مع بدايات سلفيه الحمدي والغشمي لوجدنا بوناً شاسعاً يميز المرحلة ويضع تفسيراً مفهوماً للكثير من العلاقات والتطورات التي ستشهدها الأشهر القليلة القادمة.
• بدأ الرئيس أكثر تطلعاً وشهية للانفتاح الخارجي والاستفادة من وضعه الإقليمي في الجزيرة العربية، وإعادة التوازن الدولي في المنطقة. وهو ما يمكن فهمه من خطابه السياسي في 26/9/1978م الذي خصص منه حيزاً يفتح فيه قلبه للمملكة العربية السعودية، وحيزاً أكبر لتمهيد سبل العلاقات الخارجية الدولية على أطرٍ متوازنة وبعيدة عن أقطاب الصراعات الدولية، وتجسدت تلك الإشارة بقولة: ".. وعلى تجنيب كل قطرنا اليمني ويلات الحرب والدمار، والحيلولة دون وقوعه في شراك الصراع الدولي الذي تجري ممارسته على حساب الشعوب الصغيرة النامية..).
• كشف الرئيس عن هوية فكره السياسي الوطني في زمن مبكر من عهده من خلال الأولويات التي حملت مشروع الديمقراطية على أساس إنماء ثقة سريعة بقيادته السياسية بتأميل القوى الوطنية بفرص المشاركة الفاعلة في صنع القرار السياسي للدولة.. خصوصاً وأن ذلك جاء مقترناً بإعلانه عن إنشاء المجالس البلدية في كل محافظات الجمهورية والذي اعتبره الرئيس صالح بمثابة المنجز الجديد جداً الذي يستحق جعله "هدية" بمناسبة أعياد الثورة.
ومما سبق – فإننا لا نشك أبداً بأن تلك البداية، رغم زمنها القصير، كانت استهلالاً واعداً بقوة بحقبة تاريخية أفضل في نظر الكثير من القوى الوطنية والشرائح الاجتماعية المختلفة.. وتولدت خلالها مناخات من الاستعداد النفسي للتفاعل مع البرامج السياسية للرئيس الجديد ودخول التجربة بحذر أقل. وقد ترجم مجلس الشعب هذه الحقيقة بأن منح الرئيس علي عبد الله صالح رتبة عقيد امتناناً لما بذله من جهد في حماية الوطن في المرحلة الحرجة التي أعقبت اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي.. وصدر قرار الترقية إلى رتبة عقيد في يوم 26 سبتمبر 1978م متزامناً مع احتفالات الشعب اليمني بالذكرى السادسة عشر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر. وبذلك صار الرئيس علي عبد الله صالح الرجل الوحيد الذي يحمل هذه الرتبة بعد إيقاف كل الرتب العسكرية في الجمهورية العربية اليمنية من رتبة مقدم فما فوقها على رتبة مقدم حتى تتحسن الأوضاع المالية للبلاد. اقرأ دراسات أخرى للكاتب حول عهد الرئيس صالح:مـن هـو علي عبد الله صالــح؟الرئيس صالح.. ومغامرة السلطة (تحديات العام الأول )الطريـــق الى الوحــــدة اليمنيـــــة
من كتاب: (( علي عبد الله صالح.. تجارب السياسة وفلسفة الحكم)) تأليف: الباحث والصحافي العراقي/ نزار خضير العباديحقوق النشر محفوظة لـ"نبأ نيوز" والمؤلف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق